صاحب الغبطة البطريرك يوحنا العاشر الكلي الطوبى والجزيل الإحترام،
أصحاب السعادة والسيادة،
الزملاء الأساتذة،
الطلاب الأعزاء وأولِيائِهم الكِرام،

في كُلِّ مَرَّةٍ أَقِفُ على هذا المِنبَر في حَفلِ التَخرُّجِ تُخالِجُني مَشاعرٌ مُتضارِبةٌ.
مَشاعِرُ فَرحٍ لِرؤيةِ أَجيالٍ نَشأت في هَذا الصَرح العِلميّ وَتعلَّمَت مِنهُ لُغةَ الحَياةِ، وَمَناهِجَ التَفكِيرِ، وَمَكارِمَ الأَخلَاقِ.
ومَشاعِرُ حُزنٍ لِفِراقِ أَبناءٍ تَرعرَعُوا فِي أَروقَةِ هَذه الجَامِعة، فَبادَلُوهَا حُبَّاً وَعَطفاً وَعِلماً وَوفاءً. وَهَذا الحُزن يَكمُنُ في إِدرَاكِنا أَنَّ العَددَ الأَكبَرَ مِنكُم يَطمَحُ لِمُغادَرةِ بَلدٍ أَحَبُّوهُ حُبَّاً جَمَّاً وَلكِنَّهُم سَئِموا عَيشَ مَآسِيهِ المُتكَرِّرة، وَأَحزَانِهِ الدَّائِمة.
وَلكِن تَنَبَّهوا أنَّ لِكُلِّ بَلَدٍ مآسيِهِ وأحزانِهِ، وفي كلِّ بَلَدٍ مُفسِدين ومُستَغلِّين.
وَلِكُلِّ بلدٍ ديكتاتوريةٍ مُغطَّاةٍ بِقشورِ الدِيمُقراطيَّة، فَلِلأسف نَعيشُ اليَومَ في عالَمٍ يحكُمُهُ جُنونُ العَظَمَةِ لإِشباَهِ العُظَمَاء.
فَالحَقُّ يقتُلُه البَاطل، وَالكَرامَةُ أمسَت إرثاً نَندَمُ عَلَيهِ، وَالخُلق الحَسَن مِن مُخَلَّفاتِ المَاضي.
فِي السِنين المَاضية تَوجَّهتُ إِلى الخِريجين الذِّين سَبَقوكم، بِوصَايا خُلقيَّة، وكُنتُ أَحُثُّهم أَن لا يَيأَسوا ولا يَتخاذَلوا.
أَمَّا اليَوم فَأقولُ لَكُم إِنَّكُم أَنتُم حُماةُ المُستقبَل، وَأنتُم حَامِلو المَسؤولية، وأَنتُم حُلُم الوَطَنِ وأَمَلِهِ.
نَعم أَنتُم حَاضِرُ هَذا البَلدِ، وَشُهودُ مَاضِيهِ، وَجُنُودُ مُستَقبَلِهِ.
في هَذَا الزَمنِ الصَعبِ، وَفي هَذِهِ الأَيَّامِ العَصِيبَةِ، تَجِدون أَلفَ سَببٍ وَسَبَب لِتهجُروا وَطَنَكُم، وَتُهاجِروا مِن دُونِ تَردُدٍ أَو نَدَم.
فِي خِضَّمِ هَذِهِ الأَزمَاتِ المُتكرِّرة تَختَفي كَلِماتُ الأَمَل، وَتَنْضُبُ تَعابِيرُ التَفاؤُل.
وَلَكِن أَعودُ لِأَقُولَ لَكُم لَا تَتَخلُّوا عَن مَسؤُولِياتِكُم تِجاهَ وَطَنِكُم.
أَحِبُّوهُ مِن دُون مُقابِل.
وَأَحِبُّوهُ بِأنَانيةٍ كَما تُحِبُّونَ أَنفُسَكُم،
وَأَحِبُّوهُ بِحَنانٍ كَما تُحِبُّونَ أَهلَكُم،
وَأَحِبُّوهُ كَي يَبقَى شُعلةً فِي قُلوبِكُم وَعُقُولِكُم، وَإِن غَادَرَتْهُ أَقْدَامُكُم.
نَعَم أَنتُم المَسؤُولون فِي بَلدِ اللامَسؤُولين. أَنتُم مَسؤُولُون عَن تَوعِيةِ شَعبٍ أَنهَكَتهُ حُرُوبُ المَاضي، وَأَزَماتُ الحاضر، وغيابُ المستقبل.
أَنتُم مَسؤولُونَ عَن إِعَادةِ رُوحِ الأَملِ في قَلبِ شَعبِكُم، هَذا الشَعب الذي سَئِم فَسادَ حُكَّامِه، وَاستِبدَادِهِم، وَغِياب ضَمائِرهِم، وَهَوسِهِم بِالسُلطَة والمَال.
نَعم أَنتُم المَسؤُولون عَن تَوعِيةِ شَعبِكم، هَذا الشَعب الذّي تَعمَّدَ أَغلَبُ حُكَّامِهِ أَن يَزِيدُوهُ فَقرَاً وَجَهلاً وَيأَساً وإِحبَاطاً.
تَعمَّدُوا أَن يُهَجِّروا شَبابَهُ الطَامِح المُتعلِّم، وشِيبَهُ المُثَّقَف، المُبدِع، لِكي يَتحكَّمُوا بِمن آثَرَ البَقاء فَيجعَلوا مِنهُ عَبداً ذَلِيلاً، رَاضِخاً لِأَهوائِهِم، مُتغَاضِياً عن جَهلِهِم، مُسامِحاً لِهدرِهِم وفَسادِهم وَغِيِّهم. نَعم هَذِه مَسؤولِيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنكُم، أَن يَستَنهِضَ حُريَّةَ الفِكرِ في هَذا الشَعب الذِّي فُرِضَ عَليهِ العَوَز بَعدَ أَن سُرِقَ جَنى عُمرهِ، وَتَلاشَت أَحلامُهُ في عَيشٍ كَرِيمٍ، وَسُلِبَت كَرَامَتُهُ عَلى يَدِ تُجَّارِ الهَيكَل.
وَنَعَم أَنتُم المَسؤولُون عَن اِسترجَاعِ وَطنٍ مِن يَدِ مُغتَصِبِين لِحقُوقِ شَعبِهِم، مُراهِنِينَ عَلى يَأسِ الشَبابِ وَهِجرةِ الأَبنَاءِ.
فلا تَتهاونُوا ولا تَتَراجَعُوا.
وكَما قَال جُبران خَليل جُبران "قَد تَبكِي وَهذَا حَقُّكَ، وَقَد تَحزَن وَهذَا حَقُّكَ، لَكنْ إِيَّاكَ أَن تَنْكسِر".
فإِيَّاكُم أَن تَنكَسِروا أمَامَ مَصاعِبِ الحَياةِ، وإِيَّاكُم أن تَتراجَعوا عَن تَحقيقِ أحلامِكُم.
فَمِن أجلِ حِمايةِ هَذهِ الأَحلَامِ، وَحِفظِ الأَمل بِالمُستقبَل، تَعَّهدَت جَامعةُ البَلَمند أَن تَلتَزِمَ بِمساعَدةِ كُلِّ مَن تَواجَد فِي حَرَمِها، مِن طُلَّابٍ وَأَساتِذةٍ ومُوظَّفِين. فَأبَت أَن تَكُون مُجَرَّد مَصنَعٍ يُنتِجُ الشَهادَات ومَكتبٍ لِخلقِ فُرصِ العَمَل. فَهذِه الجَامِعة المُبارَكَة مِن كُلية الطُوبى، سَيدة البَلمَند، أَبَت إِلا أَن تَعيشَ وَجعَ طُلَّابِها وَمُعاناةِ أَهلِهِم، فتَحمَّلت مَا تَحمَّلَتْهُ مِن أَعباءٍ مادّيةٍ، رَافضةً عَلى مَدى سَنَتين أَن تُشارِكَ هَذِه الأَعبَاء، شُعُوراً مِنها بِأنَّ وَاجِبَها أَن تَكُون رافعةَ الأَمَان ومَصدَرَ الاطمِئنَان لِمُجتَمَعِنا.

وَكَذلِك كَان التَعاطِي مَع الطَاقَمِ التَعلِيمي والإِدارِي، بِحَيثُ سَعَت الجَامعة، بِقَدَرِ المُستَطاع، إِلى مُسانَدَتِهِم مَاديّاً لِلحِفاظ عَلى أَبسَط مُتطَلِّباتِ العَيشِ الكَريم، عِلماً أَنَّ جَامعةَ البَلمند هي مِن الجَامعاتِ القَلأئِل الغَيرِ مَدعُومة من سَفاراتٍ، أو مِن دُوَلٍ، أو من أَحزابٍ، وَ لذَلِكَ يَبقى قَرارُها حُرّاً مُستقِلاً غير مَرهُونٍ ولا مُصَادَر.

فَهَكذا قَدَّمَت جَامِعةُ البَلمند مِثالاً يُحتَذى بِهِ في تعَزيزِ دَورِ الجَامِعاتِ عَلى صَعيدِ المُجتَمعِ والوَطنِ عَلَّ مَسؤولِي هَذا الوَطن يَتعلَّمون مَعنَى المَسؤُوليّة ومَعنَى المَسؤوليّة ومّعنَى المُواطَنَة.

وَلكِن مَع الأَسَف فَهُم لَا يَقرأون لِيتعلَّموا، وَإِن قَرأوا فَهُم لَا يَفقَهُون مَا يَقرأون. فَمُعظَمُهُم عَبَدةُ مَالٍ وَسُلطَةٍ، وَأنتم رِجالُ عِلمٍ وَمَعرِفةٍ.
وَكَما قَالَ الإِمامُ عَليّ بِن أَبي طَالِب "الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، فالْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ المَالَ، هَلَكَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ".
فَمِن حُكَّامنا، الكَثِيرونَ حَولَ السُلطَة، والقَلِيلونَ حَول الوَطن. لَا أَدري مَن مِنهُم باعَ الوَطن وَلَكِنّني أَعلَمُ وأَرى مَن دَفَعَ الثَمَن.
فَكَمَا يقولُ مَحمود دَرويش "فِي وطَنِي يَستَشهِدُ بَائِعُ الزُهور، وَيُعتَقَل بَائِعُ الخُضَار، ويُجَرَّم بَائِع البِقالَة. فَفِي وَطَني كُلُّ البَاعَة مُستَهدَفُون، إِلا بَاعةُ الوَطَن، فَهُم بِالأمنِ والتَرَفِ يَنعَمُون".
فَنَعم أَنتُم المَسؤُولُون عَن إِعَادةِ وَطنٍ مَظلُومٍ لِشعبٍ مَقهُور وَتَذكَّرُوا دَومَاً، أَنَّ الفَسَادَ يَطولُ عُمرُهُ كُلَّمَا اِنسَحَبَ الشُرفاءُ طَمَعاً بِالسَلامةِ وَرَغَدَ العَيشِ.
مِن هُنا أُقولُ إِن أَرَدتُم أَن تَكرَهوا حُكَّامَ وَطنِكم، إكرَهوهُم قَدرَ مَا تَشاؤُون، وَلكِن لَا تَكرَهُوا وَطَنَكُم، بَل بَايِعُوهُ وَلَا تَبِيعُوه.
وَإِن تَرَكتُموه عُودوا إِليهِ مَتى اِستَطعتُم.
وَإِن أَيسرتُم سَاعِدوا شَعبَهُ مَتى قَدِرتُم،
فَلُبنانُ باقٍ بِوجُودِكُم، مُتألِّقٌ بِنُبوغِكُم، وَصَامِدٌ بِجُهدِكُم وَسَعيِكُم.
عُشتُم مَسؤولِينَ أَحراراً،
عَاشَت جَامِعةُ البَلمَند، مِنبَراً لِلعلمِ والنَزَاهَة،
وَعاشَ لُبنان، خَالِداً بِشَعبِه، كَريماً بِشَبابِه.
​